epistemologie

June 8, 2017 | Autor: Chaima Mhamdi | Categoria: Epistemology
Share Embed


Descrição do Produto




















مقدمة

فلسفة العلوم "مؤسساتيّة" و لا متأسسة

الإحترازات لرفع سوء الفهم حول "اختصاص" فلسفة العلوم















إنّ ما يعنيه فعل "ابتدع" حسب لسان العرب : " بدع الشيء يبدعه بدعا وابتدعه : أنشأه وبدأه . وبدع الركية : استنبطها وأحدثها . وركي بديع : حديثة الحفر . والبديع والبدع : الشيء الذي يكون أولا." أي استحدث و أنشأ على غير مثال سابق. و يحضر هذا المعنى اشكاليا في العنوان الذي وضعه 'مولين' لكتابه. فأوّل ما يتبادر إلى ذهن قارئه أنّه يخلق اختصاصا لم يكن من قبل. إلا أنّ البعد الإشكالي يكمن في تعلّق الأمر بفلسفة العلوم و التي هي قائمة كرونولوجيا قبل اصدار هذا الكتاب.
ما الذي يقصده 'مولين' بانتقاء صيغة "الابتداع"؟؟ هل هو ادعاء لفتح تاريخ فلسفة العلوم أم هو ابتداع ذو شكل آخر؟؟
"ابتداع اختصاص" هو عينه مطلب كتاب 'مولين' الصادر سنة 2006. أمر يحوصله تصدير الكتاب أو علّه يمهّد له بتحديد علامات أولية و منهجية للقراءة. فمولين في تصديره يبلور ملامح فلسفة العلوم في طور اللا-اختصاص أي فيصيغتها "المؤسساتيّة", ليعدد جملة من الاحترازات التي ينبغي التنبّه اليها لتعيين فلسفة العلوم تعيينا دقيقا و صارما.


فلسفة العلوم مؤسسّاتيّة و لا متأسسة:

يفتتح 'أولينز مولين' تصدير كتابه بتحديد صيغة أو صبغة بحثه. فنجده يتحدّث عن "معاينة اجماليّة لتطوّر فلسفة العلوم". و نحن نعلم أنّ كلّ تطوّر انّما يحدث داخل التاريخ. فبحثه عبارة عن معاينة عابر و "إجمالية" لتاريخ فلسفة العلوم.
فهل نفهم من ذلك أنّ بحثه هو بحث تاريخي مجاله تاريخ فلسفة العلوم تحديدا؟
إنّ 'مولين' ينبّهنا هاهنا و منذ البداية إلى أنّ ما يقوم به ليس سردا لتاريخ تطوّر فلسفة العلوم عبر الزمان, بل إنّ نظرته تظلّ "إجماليّة" (vision d'ensemble) أي عابرة غير مكترثة بالدقة التاريخيّة. أنّها نظرة غير تامة و غير محايدة, انها تتجه نحو تاريخ تطور فلسفة العلوم من "وجهة خاصّة" ,وجهته هو الذاتيّة. انّ قراءته لهذا التطور التاريخي لا تلتزم بالحدود التاريخيّة من دقة و اكتمال و حياد و كليّة. بل إنّ هدفها الأساسي يتمثّل في إعادة النظر أو مراجعة موروث فلسفة العلوم التاريخي مراجعة لا تخلو من راهنيّة, تسعى خاصة الى تعيين ملامح تطوّر فلسفة العلوم منذ قيامها "مؤسسيّا" تعيينا يضمن تحددها المنهجي و الاصطلاحي اللاحقين. إنها قراءة لا تاريخيّة لتاريخ فلسفة العلوم.
يبدو أنّ معنى "ابتداع اختصاص" قد أخذ في التبلور كسعي للتأسيس للمستقبل على قاعدة دراسة الماضي عبر التفحّص النقدي الذي يحتفظ بقدر من الموضوعيّة و يحترم الى حد ما "المنطق الملازم للمؤلفين". فتدخل 'مولين' هو تدخل نقدي له جانب من الحكم الذاتي.
نتحدث هنا اذن عن معاينة لتطوّر فلسفة العلوم عامة , معاينة تتعلّق ب"اصدار أحكام نقديّة" الغاية منها التأسيس و "الابتداع" .
و لكن ألم يشر 'مولين' في البداية الى "بدايات مؤسسيّة"(débuts institutionnels) لفلسفة العلوم؟ ألا يعني ذلك من جملة ما يعنيه أن فلسفة العلوم هي أصلا اختصاص قائم و حاضر؟ فإذا كان الأمر هكذا, ما الذي يدفع 'مولين' لابتداع هذا الإختصاص بما لعبارة "ابتداع" من معنى و هو قائم بطبعه مؤسسيا؟
ما يحدثه 'مولين' أثناء التحليل انما هو ضرب من المقابلة بين 'ما يتمنى أن يتملكه القارئ' , ما يجب أن يكون , أي وجود "اجابة عامة للسؤال ما هي فلسفة العلوم" من جهة و ماهو كائن أي ما للقارئ من تعريف الى حدّ هذا اليوم, بمعنى واقع أنّه لا يوجد أيّ اتفاق حول المضامين و لا حول المناهج الأساسيّة لهذا الاختصاص. ففلسفة العلوم تبدو محوطة بالغموض, حاضرة داخل وضع مهتز بالنسبة للمتلّقي الذي يطلب تعريفا لها. إلا أنّه لا يمكن الإحاطة لا بمحتواها و لا بمنهجها. فمنذ قيام فلسفة العلوم "مؤسسيّا" حتى اليوم, نعاني من أزمة تعريف, أزمة حدّ. فمفهوم "فلسفة العلوم" ليس جليّا بذاته, خاصّة و أنّ المضمون ليس واحدا بل هي "مضامين في صيغة الجمع (les contenus) و لا يتعلّق الأمر بمنهج معيّن بل بمناهج عدّة (les méthodes) حتّى تعسّر ان لم نقل استحال علينا مع هذا الجمع و الكثرة أمرُ الإحاطة بحدّ فلسفة العلوم. فالثراء المضموني و المنهجي لم يشكّل إضافة أو كسبا بالنسبة الى 'مولين' بل على العكس من ذلك, مثّل عائقا أمام الإجابة عن السؤال الماهوي حول فلسفة العلوم. إن هذا الثراء الناتج عن تطوّر هذا الاختصاص عبر التاريخ أبعد عن المتلقي الماهية الثابتة لفلسفة العلوم. فتبنّى 'مولين' مهمة "ابتداع اختصاص فلسفة العلوم" بتحديد ماهيته كخطوة أولى و أوّلية اذ لا يمكن منهجيّا الشروع في ابتداع اختصاص دون تحديد ماهية له و تعيين مجال بحثه و موضوعه و حدوده.
عكس المقاربة التاريخيّة لتاريخ فلسفة العلوم و التي أبقتها بلا ماهية متعيّنة, انتهج 'مولين' مقاربة "خارجية مؤسسية" على حد تعبيره(externe, « institutionnel) . و تتمثل هذه المقاربة في اجلاء ماهو ضروري من المفاهيم و النظريّات و المناهج العلميّة من وجهة نظر فلسفيّة. فهو يتوجّه بالمساءلة نحو "الترؤسات الجامعيّة و المعاهد" و "الجمعيات العالمية" و المجلات" و "سلاسل الكتب" و "المؤتمرات" التي تبنّت عنوان "فلسفة العلوم" تبنيا يصفه 'مولين' "بغير البريء"(qui n'est pas innocente) بل لها جذور في تاريخ الاختصاص ذاته, إذ تتبنّى مواقف لمدارس معيّنة. إنّه تبنّ ايديولوجي إن صح التعبير. و هذا المجال الايديولوجي عينه الذي قامت في اطاره فلسفة العلوم "مؤسسيا" أي داخل "مؤسسات" ذات خلفيات غير بريئة .
هذه المعاينة لتاريخ فلسفة العلوم و تطوّرها منذ نشأتها "المؤسسية" :ما الذي مكنت 'مولين' منه؟



الإحترازات لرفع سوء الفهم حول"اختصاص" فلسفة العلوم:

إنّ معاينة يصفها 'مولين' بالعامة ,عير التامة, بل المنحازة و النقديّة, مكّنته من تعيين جملة من الإحترازات التي لا بد من التنبّه اليها لتفادي أي "سوء تفاهمات ممكنة قد تحدث في ذهن القارئ".
احترازات ثلاثة.
يتعلّق الاحتراز الأوّل بضرورة رفع الخلط بين "فلسفة العلوم" و الإختصاصات الأخرى.
ما يسعى الكاتب هاهنا لإثباته هو أنّ فلسفة العلوم أصبحت اختصاصا "شديد التخصص"(est devenue une discipline fortement spécialisée) و ذلك من خلال مراجعة الحقل الدلالي المجاور لهذا الاختصاص المتخصص من جهة الموضوع (objet) و الغاية(but) و الدلالة(contours sémantiques) لإنارة التباين الذي ظلّ مستترا بين فلسفة العلوم و اختصاصات أخرى تتداخل معها بشدة بينما تخالفها من جهة التوجهات و المناهج بشدة أيضا.
امّا من جهة الموضوع,يشير 'مولين' الى وجود تداخل "موضوعاتي" (thématique) بين اختصاص فلسفة العلوم الذي هو اختصاص "قريب العهد" زمنيّا من جهة و اختصاص آخر "قديم" يقصد به "نظرية المعرفة" أو "فلسفة المعرفة". رغم التواصل "الموضوعاتي" بين الاختصاصين فإنّه جدير بالاشارة وجود فرق جذري "موضوع التدبّر الفلسفي" (l'objet de la reflexion philosophique).
تنشغل نظرّيّة المعرفة بظروف و حدود المعرفة الإنسانيّة ككل, في حين تحلل (analyse) فلسفة العلوم بنية و آلية اشتغال هذا الشكل المخصوص ضمن المعرفة المقصود به المعرفة العلمية دون غيرها و بشكل خاصّ تلك التي تتأتّى من النظريّات العلميّة.
جليّ اذن أنّ التدبر الفلسفي في نظريّة المعرفة ينصب على المعرفة الإنسانيّة في كليّتها فيتدارس ظروفها و حدودها بشكل شامل دون تخصص. و بالتالي فإنّ نظريّة المعرفة هي دون الاختصاص,ليست اختصاصا لأن مجال موضوعها يتجاوز التخصص نحو الكليّة و العموميّة, في يبدو موضوع فلسفة العلوم خاصا جدا.و يفرّق 'مولين' بين "الانشغال ب"(s'occupe de) و التحليل(analyse) : الأول أكثر عموميّة و شمولا بل سطحية. في حين يحمل "التحليل" بعدا أكثر عمقا و قدرة على النبش و الولوج في الداخل و البحث المعمّق و المتخصص. فلا تنظر فلسفة العلوم في كل المعرفة البشريّة بل تكتفي و تلتزم باختصاص معيّن بذاته لا تتجاوزه, المعرفة العلميّةخاصة, تحلل داخله فلا تغادره. هكذا فإنّ فلسفة العلوم نشأت كاختصاص له مجاله المحدد و المخصص بينما ليست نظرية المعرفة باختصاص أصلا.
و يقتصر كتاب 'مولين' حسب تعبيره على فلسفة العلوم و تطورها دون غيرها, و يشير الى أنّ هذا الاقتصار لن يدفعه الى اقصاء خيوط التماس بين الاختصاص الذي يريد ابتداعه و نظريّة المعرفة, بل على العكس سوف ينبّه الى المصادر و المشاكل و التيارات الفكرية و الكتاب الذين لهم مكانتهم في تاريخ نظرية المعرفة.
الا أن هذا الفصل بين موضوع فلسفة العلوم و موضوع نظرية المعرفة لا يكفي لتحديد فلسفة العلوم كاختصاص متأسس بذاته و مستقل عن الاختصاصات الاخرى المجاورة له. و ذلك نظرا الى وجود اختصاصات أخرى تتبني توجهات علميّة كموضوع بحث مثل علم اجتماع العلوم و علم تاريخ العلوم و علم اخلاق العلوم, جميعها اختصاصات اتخذت موضوعا لها بعض تجليات العلم.
يمر 'مولين' ,صلب الاحتراز الأوّل ذاته, الى معاينة الفرق بين فلسفة العلوم و الاختصاصات المجا رة من جهة الغرض.
يقرر 'مولين' أنّ فلسفة العلوم هي بالأساس اختصاص نظري "من الدرجة الثانية" بالنسبة الى العلوم الموجودة, أي أنّها "ميتا-علم" حيث أن غرضها أن تنشئ نماذج "ميتا-علميّة" لتوضح ما هو أساسي في المفاهيم و النظريات و المناهج. بل يذهب الى أبعد من ذلك فيعتبر مؤكدا أن فلسفة العلوم اختصاص فلسفي قبل كل شيء.
فكيف يكون هذا الاختصاص المهتم بانشاء نماذج علميّة غايتها توضيح النظريات العلمية, ذا طابع فلسفي قبل كل شيء؟
اسس 'مولين' هنا علاقة تلازميّة بين الاختصاص الذي غايته أن ينشئ نماذج موضّحة" من جهة, و الطابع الفلسفي من جهة أخرى. فهذا الاختصاص "المبتدع" قد طبعه 'مولين' بطابع فلسفي محض حتى أصبحنا نعاين نوعا من الاحتواء الفلسفي لابداع النماذج. كأن ماهية هذا الاختصاص المتخصص الملتزم بحدود العلم هي عينها الفلسفة. ترتدي النظريّات العلميّة التي تحللها فلسفة العلوم وعاءا فلسفيا محضا.
عمل 'مولين' هنا على طبيعة التوجه الفلسفي نحو الواقع بما هو توجه يعمل على تحليل الواقع و اعادة صياغته من أجل تقريبه و جعله أكثر وضوحا. و ملازته بين الاختصاص "المبتدع" و الطابع الفلسفي تأكيد لقيمة التدخل الفلسفي في العلم تدخلا يسعى بالأساس الى بلورة النظريات العلميّة و تحليل بنيتها و آليات عملها من خلال انشاء نماذج تقرب المفاهيم الخاصة بها. بالتالي, فان فلسفة العلوم ذات غاية و ماهية فلسفيتين أساسا, في حين أنّ الاختصاصات الاخرى ليست ذات غاية فلسفيّة و لا تحمل طابعا فلسفيّا لأنّها تتخذ من بعض تجليات العلم التي تتدارسها لخدمة اختصاصات اخرى لا-علميّة بالمفهوم الموليني. فمثلا يدرس علم اجتماع العلوم النظريات العلمية انطلاقا من اعتبارات اجتماعية, و يدرسها علم تاريخ العلوم لاعتبارات تاريخيّة و علم أخلاق العلوم لاعتبارات أخلاقية. فهي لا تعمل على توضيح النظريات العلمية في ذاتها .
و ضمن ذات الاحتراز الأول, يسلط 'مولين' الضوء على جانب ثالث, دلالي. و يتحدث الكاتب في هذا السياق عن لفظ " ابستمولوجيا" كمرادف لفلسفة العلوم و هو لفظ تقليدي قديم, الا أنه ايضا لا يتخلى عن الحذر و الاحتراز. فنجده يعتمد مفردات مثل "ليس تماما"/"تقريبا" (presque) و "ظرفيا (occasionnellement) مشيرا الى أن اللفظين غير متطابقين و لا مترادفين تماما بل يظل الترادف نسبيا و ظرفيا إن لم يكن معدوما. و ذلك لأن "ابستمولوجيا" له معالم دلالية أكثر عموميّة و تتماشى أكثر مع النظرية العامة للمعرفة. فهو مفهوم عام و شامل لا يمكن أن يكون تعبيرا عن اختصاص متخصص في مجال معيّن. لذلك نرى مولين لا يستعمله الا ظرفيّا ليدلل به على قدرات المعرفة الانسانية داخل سياق علمي بالأساس.
هكذا و قد تمكّن 'مولين' من تعيين الحدود التي تفصل "اختصاص فلسفة العلوم" عن الاختصاصات الأخرى المجاورة له موضوعيّا و غائيّا و دلاليا, ففيم يتمثّل احترازه الثاني؟
يتعلّق مجال الاحتراز الثاني الذي يصدره 'مولين' "بالحدود التخصصيّة للموضوع المدروس من قبل فلسفة العلوم" (les limites disciplinaires de l'objet étudié par la philosophie des sciences) .
ما نلحظه أن الكاتب يركّز مجددا على تنقية و توضيح و تدقيق المصطلحات و المفاهيم. فهو في خطوة تمهيديّة ساعية الى "ابتداع" اختصاص فلسفة العلوم كاختصاص قائم و متقوّم, متأسس و تأسيسي, يقوم بتحضير أرضيّة مفاهيميّة".
نجده في هذا السياق يميّز بين مفهومين: المفهوم المتداول في الاستعمال الفرنسي "علوم الواقع" (sciences du réel) و مفهوم متداول في اللغات الاوروبيّة غير الفرنسية "العلوم الأومبيريقيّة" (sciences empiriques). و يوجه 'مولين' انتقاداته نحو المفهوم الأول الفرنسي أي "علوم الواقع", فيعتبر أنّه يتضمن توجها أنطولوجيا بالأساس. في حين أنّ "العلوم الاومبيريقيّة" فمقصود بها الاختصاصات التي تظل مفعوليتها (validité) مرهونة بالتجربة الحسيّة كعلوم الطبيعة و المجتمع.
و يبيّن 'مولين' انحيازه لهذا المفهوم الأخير, فيقتصر على العلوم الاومبيريقية كحدود اختصاصيّة لموضوع درس فلسفة العلوم و يقصي في المقابل أيّ توجّه صوري محض كالمنطق و الرياضيات.
يبرر 'مولين' موقفه بكون استعمال "العلوم الاومبيريقية" يمكّننا من التمييز التام و الواضح بين التدبر الفلسفي لعلوم الطبيعة و المجتمع و التدبر الفلسفي للمنطق و الرياضيات الخالصة. فكأن بالاعتماد الفرنسي ل"علوم الواقع" محل اتهام , و تهمته تجاوز حدود التخصص و الخلط بين الموضوع الحيقيقي لفلسفة العلوم , أي العلوم الاومبيريقية المحضة , و العلوم الصورية التي يقصيها 'مولين' تماما من الحدود التخصصية لهذا الاختصاص "المبتدع" . فهو يترك فلسفة الرياضيات جانبا. حيث شهدت, بالنسبة له, فلسفة الرياضيات تطورا استثنائيا خلال القرن العشرين, و لكنّه تطور مستقل تماما عن الأسئلة الفلسفيّة المطروحة من طرف العلوم الاومبيريقيّة حتى و إن بدا الاختصاصان متداخلين و متأثرين بعضهما ببعض. الا أنّ هذا التداخل لم يمنع 'مولين' من اقرار الفصل النهائي لابتداع اختصاص فلسفة العلوم.
لئن حدد 'مولين' فلسفة العلوم كاختصاص بفصلها عن الاختصاصات الاخرى ثم بتعيين حدودها التخصصية المتمثلة في العلوم الاومبيريقية لا غير, فأي احتراز هو الذي ظل أمامه؟
الاحتراز الذي يبلوره 'مولين' في درجة ثالثة موضوعه "درجة العمومية التي تدعي المذاهب امتلاكها حول العلوم". هاهنا يشير 'مولين' الى مرحلة من تاريخ فلسفة العلوم هي مرحلة القرن العشرين و على وجه الخصوص العشريات الاخيرة حيث تجاوزت حدود التخصص مجال النظريات العامة حول العلوم الاومبيريقية أو نظريات العلوم الاومبيريقية بصفة عامّة, ليصبح الحديث عن تخصصات جزئية أو اقتطاعية داخل الاختصاص الواحد. فلم يعد الامر مقتصرا على اختصاصات علمية متخصصة كالحديث عن فلسفة الفيزياء أو فلسفة البيولوجيا أو فلسفة الاقتصاد, بل أصبحنا نتحدث عن نظريات مدروسة بصورة جزئية , فظهرت مثلا فلسفة نظرية النسبية المحددة و فلسفة الميكانيكا الكوانطية و فلسفة نظرية التطوّر..الخ


ما نخلص إليه من التحليل أمران:
أوّلا : التفريق الذي ذهب اليه 'مولين' بين "البدايات المؤسساتية" لفلسفة العلوم من جهة و فلسفة العلوم "كاختصاص" من جهة أخرى. فتقصي شكل فلسفة العلوم الذي كان قائما من قبله في الشكل المؤسساتي الايديولوجي و غير البريء دفعه الى اعتماد منهج خارجي مؤسساتي , يعاين ذاك التجلي من الخارج معاينة نقدية تقييميّة. حتى تراءى له أنّ ذاك الشكل المؤسساتي الذي حبست داخله عناوين المحاضرات و الكتب و المجلات و الجامعات و غيرها فلسفة العلوم, لم يعن أن هذه الأخيرة كانت متأسسة كاختصاص. بعبارة أخرى, ان فلسفة العلوم كانت قائمة و لكنها غير متأسسة, انها فاقدة للأساس. و دليله على ذلك أنها ظلت حتى يوم الناس هذا قائمة على الغموض و اللاتحدد, غائبة الماهية,مجهولة المعنى بالنسبة للمتلقي.
انها اذن مؤسساتيّة و ليست متأسسة و هذا ما دفع 'مولين' الى الحديث عن "ابتداع" فلسفة العلوم كاختصاص. اذ ليس قصده خلق اختصاص من عدم بل ابتداع اختصاص ذي أسس متعيّنة و مضبوطة.
ثانيا: "ابتداع" اختصاص متأسس و مؤسس(مؤسس لأنّه سيكون ذا تأثير على التطورات الدلالية و المنهجية اللاحقة كما جاء في بداية التصدير), استدعى استعراض ثلاثة احترازات حللها 'مولين' بحذر لتحديد ماهية الاختصاص الذي يريد .
و منه فان فلسفة العلوم التي يريدها 'مولين' هي:
اختصاص شديد التخصص, و لا ينبغي الخلط بينه و بين اختصاصات اخرى مجاورة له و لكنها تختلف عنه من جهة الموضوع(كنظرية المعرفة) و الغرض (كعلم اجتماع العلوم و علم أخلاق العلوم و علم تاريخ العلوم) و الدلالة (فلسفة العلوم ابستمولوجيا).
هي بالأساس اختصاص نظري من الدرجة الثانية بالنسبة الى العلوم الموجودة. أي أنّها "ميتا-علم".
اختصاص فلسفي قبل كل شيء,
اختصاص حدوده التخصصية تقتصر على العلوم الاومبيريقية على وجه الحصر.
اختصاص موضوعه يقتصر فحسب على النظريات العامة حول العلوم الاومبيريقية أو نظريات العلوم الاومبيريقية بصفة عامة.






يبدو أن "فلسفة العلوم" رغم ثراء مجالها ظلت الى يومنا هذا غامضة في ماهيتها. فما يشير اليه 'مولين' انما هو وضع مأزقي تعانيه فلسفة العلوم وسط تجاذبات مؤسساتية غير بريئة و ذات خلفيات ايديولوجية, حيث تضاربت المضامين و المناهج دون تحديد واضح المعالم لماهي فلسفة العلوم. ما يريده 'مولين' "ابتداع" فلسفة علوم خارج الصبغة المؤسساتية التي أبقتها قائمة دونما أساس و هو ابتداع حذر و محترز.



Lihat lebih banyak...

Comentários

Copyright © 2017 DADOSPDF Inc.